الْصُّوفِيَّةُ فيِ الْقُرْآنِ وَالْسُّنَّة
<blockquote>هناك حملات ضارية قديماً وحديثاً، ليس لها أساس من الدين ولا
من العلم ولا من العقل السليم على الصوفية... والإنسان العاقل يحكِّم عقله
في القضايا، فالقضايا يمنطقها بمقدمات تؤدي إلى نتائج، والإنسان صاحب الدين
يتورع أن يفتي في أمر من قبل نفسه، أو من قبل هواه.... لكنه يعرضه على شرع
الله، وعلى كتاب الله، وعلى سنة رسول الله ، ولا يقول إلا ما يوافق كتاب
الله، وما يوافق سنة حبيب الله ومصطفاه. والإنسان الدارس في أي معهد علمي؛
يطبِّق المناهج العلمية على أي قضية علمية.ولو طبَّقنا المناهج العلمية؛
مثل: الملاحظة، والتجربة، والمشاهدة، وكيفية البحث العلمي السديد؛ نجد أن
الأوربيين الذين تفوقوا على العالم كله في البحث العلمي يضعون قضية التصوف
في مقدمة القضايا الثابتة علمياً، والتي يحتاج إليها الناس أجمعون للخروج
من المشكلات وللتوازن النفسي ولإصلاح النفوس وزيادة مناعة الأجسام، ولتصفية
القلوب، ولإعـلاء شأن المثل والقيم التي يتوقف عليها سعادة المجتمعات.
أشياء كثيرة أثبتوها وسجَّلوها وموجودة عند كبريات الجامعات العالمية، لكن
الأبواق الضالة التي تنعق على الصوفية - بدون حجة ولا دليل ولا برهان ولا
أي منطق مقبول عقلاً أو مثبوت نقلاً - لا ترى ذلك ! فيجب علينا وينبغي
علينا أن نرد على مثل هذه الأمور.
وقد يسأل سائل: وهل الصوفية موجودةٌ في القرآن والسنَّة ؟ نقول: نعم، وقد
أثبتنا ذلك في هذا الكتاب ابتغاء مرضاة الله، وإظهارا للحقيقة لوجه الله
جلَّ في علاه، ولا نريد بذلك غير رضاه. فعن طريق التصوف، يقول الإمام
الغزالي :
" إن الطريق إلى ذلك إنما هــــو: تقديم المجاهدة، أو محــو الصفات
المذمومـة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما
حصل ذلك: كان الله هو المتولِّي لقلب عبده، المتكفِّل له بتنويره بأنوار
العلم.وإذا تولَّى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب،
وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف
الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية.فليس على العبد إلا الاستعداد،
بالتصفية المجردة، وإحضار الهمَّة، مع الإرادة الصادقة، والتعطش التام،
والترصُّد بدوام الانتظار، لما يفتحه الله سبحانه وتعالى من الرحمة ".وعن
هذا الطريق يقول ابن خلدون : " وقد كان الصحابة على مثل هذه المجاهدة، وكان
حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل
أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة، ممن
اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم ".هذا فيما
يتعلق بالطريق، أما فيما يتعلق بالموضوع، والشعور، والأحوال؛ فإن الصوفية -
على وجه العموم - نبَّهوا في صورٍ حاسمةٍ إلى وجوب التزام الشريعة، يقول
الإمام أبو الحسن الشاذلي :" من دعا إلى الله تعالى، بغير ما دعا به رسول
الله فهــو بِدْعِىٌ.". ويقول: " إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات
الخمس في الجماعة، فلا تعبأ به ".ومن أجمل كلماته في هذا: " ما ثَمَّ كرامة
أعظم من كرامـــة الإيمان، ومتابــعة السنَّة.فمن أعطيهما؛ وجعل يشتاق إلى
غيرهما: فهو عبدٌ مفترٍ كذَّاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل بالصواب.كمن
أُكْرِمَ بشهود الملك على نعت الرضا؛ فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب، وخُلَـع
الرضا ".وكل الصوفية ينهجون هذا النهج، ومن هؤلاء مثلاً: أبو يزيد
البسطامي، الذي يقول في قوة حاسمة، وفي نطق صادق " لو نظرتم إلى رجل أعطى
من الكرامات، حتى يرتقي في الهواء !، فلا تغتروا به؛ حتى تنظروا كيف تجدونه
عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة ".ولقد تحدث الإمام الجنيد -
أكثر من مرة - فيما يتعلق بالتصوف والشريعة، ومما قاله في ذلك :" الطرق
كلها مسدودةٌ على الخلق؛ إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته، ولزم طريقته
"، وقال أيضاً : "من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقْتَدى به في
هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيَدٌ بأصول الكتاب والسنَّة ".
ولقد كان الإمام الغزالي في سلوكه وقوله وفي حياته كلها يلتزم الشريعة،
ويقول: " إن المحققين قالوا لو رأيت إنساناً يطير في الهواء!، ويمشي على
الماء!، وهو يتعاطى أمراً يخالف الشرع، فاعلم أنه شيطان" والواقع أن المثل
الأعلى للصوفية على بكرة أبيهم، إنما هو رسول الله ، وهم يحاولون باستمرار
أن ينهجوا نهجه، وأن يسيروا على منواله.فهو إمامهم الأسمى في كل ما يأتون،
وما يدَعون، وهم يتابعونه مهتدين في ذلك بقوله تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) وقد قال د. عبد الحليم
محمود في كتابه قضية التصوف"، ص 48: "إن الصوفية لهم طريقٌ روحيٌ يسيرون
فيه.وهذا الطريق يعتمد أساساً ومنهجاً وغايةً على القرآن الكريم والسنَّة
النبوية الشريفة،.وهذا الطريق قد جرَّبَه الصوفية؛ فثبتت ثماره عن طريق
التجربة أيضا،.وجوهر الطريق الصوفي هو ما سمَّاه الصوفية المقامات
والأحوال، والمقامات هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله؛
فيقف فيها فترة من الزمن مجاهداً في إطارها حتى يهيئ الله له سلوك الطريق
إلى المنزل الثاني؛ لكي يتدرج في السمو الروحي من شريف إلى أشرف، ومن سام
إلى أسمى، أما الأحوال؛ فإنها النسمات الروحية التي تهب على السالك فتنتعش
بها نفسه لحظات خاطفة، ثم تمرُّ تاركةً عطراً تتشوق الروح للعودة إلى
تَنَسُّم أريجه".
يتبع ان شاء الله</blockquote>