إنا كفيناك المستهزئين
الحمد لله وكفى، ثم الصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ورسله الذين اجتبى، وبعد..
فإن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله، صلى الله عليه وسلم، أنه إن لم يجاز في
الدنيا بيد المسلمين، فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث
التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عهد النبوة كثيرة، وقد قال الله
تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين)
[الحجر:95].
والقصة في سبب نزول الآية وإهلاك الله لهؤلاء المستهزئين واحدا واحدا
معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤس قريش: منهم
الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث،
والحارث بن قيس.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يسلم، لكن
قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثبت ملكه.
قال ابن تيمية في الصارم: "فيقال: إن الملك باق في ذريته إلى اليوم"، ولا يزال الملك يتوارث في بعض بلادهم.
وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق، فلم يبق للأكاسرة
ملك، وهذا والله أعلم تحقيق لقوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر:
3]، فكل من شنأه وأبغضه وعاداه، فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقد
قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو في عقبة بن أبي معيط، أو في كعب بن
الأشرف، وجميعهم أخذوا أخذ عزيز مقتدر.
ومن الكلام السائر، الذي صدقه التاريخ والواقع: "لحوم العلماء مسمومة"، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" فكيف بمن عادى الأنبياء؟
يا ناطح الجبل العـالي ليثلـمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إن من عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ولاسيما من تواتر فضله فإسلامه
على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبياً من الأنبياء، فكيف
بمن آذى محمداً صلى الله عليه وسلم؟ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ
لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) [الأحزاب:57].
وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين
آذوا الأنبياء، وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما
ضربت عليهم الذلة وباءوا بغضب من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء
بغير حق، مضموماً إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه، فقال عز شأنه:
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [آل عمران:112]. فحري بمثل
هذا المستهزء المستهتر أن يُتمثل له قول الأعشى:
أَلَستَ مُنتَهِياً عَن نَحتِ أَثلَتِنا وَ لَستَ ضائِرَها ما أَطَّتِ الإِبِلُ
كَناطِـحٍ صَخرَةً يَوماً لِيَفلِقَها فَلَم يَضِرها وَأَوهى قَرنَهُ الوَعِلُ
لا تَقعُـدَنَّ وَقَد أَكَّلتَها حَطَباً تَعُوذُ مِـن شَرِّها يَوماً وَتَبتَهِلُ
إن مجرد إخراج النبي رفع للأمان وإيذان بحلول العذاب، ولهذا قال الله
تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الاسراء:76]،
فإذا كان هذا جزاء الإخراج فكيف بالأذى والسخرية والاستهزاء؟ لعلك لا تجد
أحدا آذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولابد أن تصيبه قارعة، وقد قال
شيخ الإسلام بعد أن ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رجل
نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
فعاد نصرانيا وكان يقول لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه
فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن
صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبحوا وقد
لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه، وهذا حديث صحيح ثابت عند
البخاري وغيره.
ثم قال الإمام ابن تيمية معلقاً: "وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على
أن هذه عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل
هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذا كان عامة المرتدين لا
يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه
وكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما
حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة
في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني
الأصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من
الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله
والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين أو
نحو ذلك ثم يُفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة. قالوا حتى إن كنا
لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم
بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات؛ أن المسلمين من أهل
المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من
عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين".
وقال في موضع آخر: وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة.
وقد قال أصدق القائلين سبحانه مبينا تكفله بكفاية شر هؤلاء: (قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) [البقرة: 136-137]. فما أوسع البون بين أهل الإسلام الأتقياء
الأنقياء الذين يؤمنون بجميع الرسل ويعظمونهم ويوقرونهم، وبين غيرهم الذين
ناصبوا رسلهم العداء قديماً وحديثاً، وورثوه كابراً عن كابر.
ولاشك أن ساسة الدول الذين يغضون الطرف عن سفهائهم الواقعين في أعراض
الأنبياء ليسوا عن الذم بمعزل، فإن الله سبحانه تأذن بإهلاك المدن والقرى
الظالمة، ولعل من أظلم الظلم الاعتداء على الأنبياء وتنقصهم، فإن ذلك يخالف
التشريعات السماوية، كما أنه مخالف للنظم والقوانيين الوضعية الكافرة
الأرضية. والدول الغربية إذا لم تقم العدل لم تبق من مقومات بقائها كثير
أعمدة.
ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها،
فإنهم ما تجرأوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا
المنطق، وأعوزتهم الحجة، بل ظهرت عليهم حجة أهل الإسلام البالغة، وبراهين
دينه الساطعة، فلم يجدوا ما يجاروها به غير الخروج إلى حد السب والشتم،
تعبيراً عن حنقهم وما قام في نفوسهم تجاه المسلمين من المقت، وغفلوا أن هذا
يعبر أيضاً عما قام في نفوسهم من عجز عن إظهار الحجة والبرهان، والرد
بمنطق وعلم وإنصاف. فلما انهارت حضارتهم المعنوية أمام حضارة الإسلام عدلوا
إلى السخرية والتنقص والشتم.
وإنك لتعجب من دول يعتذر حكماؤها لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع أن شأنهم
مع من عادى السامية أو تنقصها يختلف! وحسبك أن تقرير الحريات الأمريكي
الأخير أشاد بحادثة تحقيق وإدانة في الدنمارك لمعادات السامية، وببعض جهود
الدولة في ذلك، ولامها في بعض التقصير –وفق رؤيتهم- وفي معرض ذلك عرض
بالمسلمين، فضلاً عن تغافله عن حوادث السخرية بالإسلام ونبيه صلى الله عليه
وسلم المتكررة هناك.
ومن هنا يتبين أن مسألة الديمقراطية وقضية الحريات وقوانين الأمم المتحدة
التي تزعم احترامها وحمايتها وبالأخص الدينية منها، أمور ذات معاير مختلفة
عند القوم، والمعتبر عندهم فيها ما وافق اعتقادهم ودينهم وثقافتهم.
وإذا تقرر هذا فليعلم أن من واجب المسلمين أن يذبوا عن عرض رسول الله بما
أطاقوا قولاً وعملاً، وأن يسعوا في محاسبة الظالم وفي إنزال العقوبة التي
يستحقها به، كما قال الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)
[الفتح:9]، وقال: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة:40]،
ومن المفارقات الظاهرة التي وقع فيها بعض المسلمين، تقصيرهم في الذب عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنك ترى الموالد الحاشدة المكتظة بدعوى
المحبة، فهل ياترى عبرت تلك الحشود التي ربما رمت غيرها بعدم محبته صلى
الله عليه وسلم عن حبها بذبها عن رسولها صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنصف
النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أولئك الذين يحاولون تصوير مسألة تنقصه
–مجاملة للغرب- على أنها مسألة لاتنبغي لأنها من قبيل الحديث في الأموات؟
هل هذا علاج صحيح للقضية؟ وهل هذا هو حجمها عند المسلمين؟ أرأيتم لو استهزأ
بحاكم أو ملك أو رئيس، أوَ تبقي بعدها تلك الدولة المستهزؤ بحاكمها علاقة
مع الدولة التي يُستهزؤ فيها تحت سمع وبصر الساسة باسم الحريات؟ أويقبل
مسلم أن تقطع دولة إسلامية علاقتها مع دولة غربية لأسباب يسيرة وقضايا
هامشية ثم لا تحرك ساكنا تجاه السخرية بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم؟
لقد كان الذب عنه صلى الله عليه وسلم، ومجازاة المعتدي وردعه من هدي
الصحابة والسلف الكرام، بالعمل والقول وربما بهما جميعاً، وكم جاد إنسان
منهم بنفسه في سبيل ذلك، إلاّ أنه لايتوجب على المسلم أن يُعَرِّض نفسه
للهلكة في سبيل ذلك، بل له في السكوت رخصة إذا لم تكن له بالإنكار طاقة،
وفي خبر عمار –رضي الله عنه- في الإكراه ونزول قول الله تعالى: (إلاّ من
أكره) الآية ما يشهد لهذا، وكذلك حديث جابر في قتل محمدُ بن مسلمة كعبَ بن
الأشرف، فهو يشهد لهذا المعنى، وغيره مما هو معروف عند أهل العلم.
ومن كان هذا شأنه فلا يقتله الأسى وليعلم أن الله منتقم لنبيه، وأن المجرم
إذا تداركته فلتة من فلتات الدهر في الدنيا فلم تمض فيه سنة الله في
أمثاله، فإن وراءه:
يوم عبوس قمطرير شـره في الخلق منتشر عظيم الشان
وحسبه من خزي الدنيا أن يهلك وألسنة المليار ومن ينسلون تلعنه إلى يوم
الدين، فإن المسلمين قد ينسون أموراً كثيرة ويتجاهلون مثلها، ولكنهم
لاينسون ولا يغفرون لمن أساء إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم وإن تعلق بأستار
الكعبة، وخاصة بعد موته صلى الله عليه وسلم وتاريخهم على هذا شاهد.
هذا والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يعز
الإسلام وأهله إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.