ما المقصود بعبارة "الكتاب المبين" في بعض الآيات القرآنية الكريمة؟؟؟
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ...
الأخوات الفاضلات ... الإخوة الكرام
أتطلع لنشر بعضاً من مقالاتي المتعلقة بنظرة حديثة للقرآن ولأسباب تخلف المجتمعات الإسلامية وذلك من خلال موقعكم المرموق. أرجو من حضراتكم قراءة الموضوع وإبداء وجهات نظركم القيمة فيه لفائدة الجميع ... وشكراً لكم مسبقاً على وقتكم الثمين ...
بسم الله الرحمن الرحيم
مثلُ القُرآنِ الكريمِ كَمَثلِ أرضٍ مُبَارَكَةٍ تُخفِي الحَياةَ في باطِنِهَا، وتؤتي أُكُلها عندما يرعاها الناسُ. فكلما كانت أساليبُ إحيائِها مُنظمةً، مُخلَصةً، صَادقةً، شامِلةً ومُتطورةً كان عطائُها وافراً مباركاً مُتنوعاً. وسنأتي بالتفصيل لاحقاً لنبيِّنَ ونثبتَ أنَّ كلمة "سُورةٍ" في القُرآنِ تعني أيضاً "الأرض" .... وهنا نكتفي بالقولِ أنَّه وكما تعطي الأرض ثمارها دوماً فإنّ القرآن الكريم يعطي ثماره وينبت من كُلِّ زوجٍ كريمٍ ...
إنَّ سيِّدنا محمداً عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام خاتم المرسلين، والشريعةُ الإسلاميَّةُ هي آخرُ الشرائعِ السماويةِ، والقُرآنُ آخرُ الكتبِ السماويَّةِ. لذا اقتضت الحِكْمةُ أنْ "يُحْفَظَ" القُرآنُ لمن سيأتي من الأُمَمِ، ولمن سيلحقُ من الأجيالِ إلى الأبد. ولأنَّ الأُمَمَ تتغيرُ وتتطورُ بطبيعتِها، كانتِ الحِكْمةُ أنْ يُحْفظَ كتابُ الله تعالى، وفي نفس الوقتِ يكونُ قابلاً لعطاءِ الأُمَمِ المستقبليَّة كلٌ على حَسَبِ نِيَّتِه وقدرتِه العِلميَّةِ والفِكْريَّةِ والتقنيَّةِ للاستنباطِ. لذلك وجَبَ أنْ يكونَ القُرآنُ مُباركاً لا تنقضي عجائَبُه ولا ينتهي زمانُه ...
ومن المعْلُوم أنَّه بتقادمِ الزمانِ يكثرُ الناسُ وتتراكمُ العلومُ والخبراتُ والمداركُ وتزدادُ، مما يؤدي وبالتأكيدِ إلى التعمق في فَهمِ كلِّ شيءٍ من حولِنا بما في ذلك كلام الله تعالى وسُنَّة نبيهِ الكريم ... أي إنَّ على الأجيال المتأخرة أنْ تكون أوعى وأعلمَ من أسلافها لا عالةً عليها تماماً كما إنَّ على الشيخِ أنْ يكون أوعى وأعلمَ من الطفل ... عليهم أنْ يَعلَمُوا أنَّ القرآنَ كريمٌ، وأنَّ الكريمَ لا ينقضي عطائُه! فكتابُ ربِّ العالمينَ للعالمينَ لجميع الأزمنةِ والأماكنِ.
فلا ينبغي حَصْر حِكْمة آيةٍ من المصحفِ في ظروفِ نُزُولِها، أو حَصْر تفسيرَها في أقوالٍ محددةٍ من السَلَفِ. أوَ تُستخدمُ الدّوابُّ في التنقلِ هذهِ الأيام؟ والحمامُ الزاجلُ في الاتصالاتِ؟ والنِبالُ في الحروبِ؟ فما دام الإنسان يكتشفُ كل يومٍ مخترعاتٍ جديدةٍ في الدنيا، فكيف يَعْجَزُ كلامُ الله تعالى عن الإتيان بمعارفَ جديدة؟
فعندما يتكلمُ أحدُنا نسمعُ له ونعطي كلامَهُ من الثِقلِ والمصداقيَّةِ ما يتناسبُ مع خِبرتِهِ وعِلمِهِ وحِكمتِهِ ومصداقيَّتهِ. فهناك نِسْبةٌ وتناسبٌ بين عِلمِ المُتكلمِ وحِكمتِهِ وبين العلمِ والحِكْمةِ والتناغمِ والتجانسِ والترابطِ المختزنِ في كلامِه أو في كتابِه! فما بالُكم إذاً بما في كتابِ ربِّ العالمينَ من علومٍ وحِكَم؟ بكُلِّ بساطةٍ فالقدراتُ الإلهيةُ والترابطُ في كلامِهِ تعالى لا نهائيٌ في أبعادِه. فلو قدَّرنا ذلك كما ينبغي، أدركنا أنَّ كُلّ "كلمةٍ" في القُرآنِ تحوي من الحِكَمِ والعلومِ والترابطِ والتناغمِ مما لا يستطيعُ البشرُ كلُّهم إدراكَه وتقديرَه حقَّ قدره، ولو اجتمعوا له.
فإنْ كنَّا نحنُ المخلوقينَ نربِطُ كلامَنا ببعضِه البعضَ، فكلامُ ربِّ العالمينَ إذاً يرتبِطُ أوَّلُه بآخِره ... كُلُّ سُورةٍ ترتبِطُ بكُلِّ سُورةٍ فيه ... وكُلُّ آيةٍ بكُلِّ آيةٍ فيه ... وكُلُّ كلمةٍ بكُلِّ كلمةٍ فيه ... وكُلُّ حرفٍ يرتبِطُ بكُلِّ حرفٍ فيه ...
إنَّ تسخيرَ السَّمَواتِ والأرض وما فيهن ليس منحصرا في التسخير الماديِّ الحياتيِّ المعاشيِّ من أكلٍ وشربٍ وملذاتٍ.
فتسخيرُ الخلق هو دراستُه والبحثُ في إعجازاته وإبداعاته لمعرفة الخالق تبارك وتعالى وأسمائه الحسنى وَمِنْ ثَمَّ الاصطباغُ والاتصافُ بها وإظهارُها في حياتِنا وأنفسِنا وأخلاقِنا لنكونَ مثلاً ومَظهراً لله تعالى فنستحقَ أنْ نكونَ خُلفاءَهُ في الأرض. فالتسخيرُ فكريٌ عقليٌ وليس مادياً استهلاكياً وحسب. فتأمل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأرْضِ ... {لقمان: 20} ... فإنْ كان الخلقُ مُسَّخراً للإنسانِ حسب الآية الكريمة، فكيف يمكنُ تفسيرُ أنَّ النجومَ البعيدةَ مُسخرةٌ للإنسان وهي التي لا ولن يُمْكِنَ يوماً الوصول إليها مادياً لِبُعدها عنا بما لا يمكن لبشر تخيلُهُ؟ فضلاً عن الوصول إليها بل وتسخيرها؟
ولاحظِ العلاقةَ بين التسخيرِ والعقل في الآيات التالية: إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التى تَجْرى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الريح وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأرْضِ لـءـايتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {البقرة: 164} … وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيل وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لـءـايتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (النحل : 12)
إنَّ خلقَ السَّمواتِ والأرضِ لهُو الكتابُ المُبينُ الذي كثيراً ما جاءَ ذِكْرُهُ في القرآن الكريم ... وهو كتابٌ بمعنى الكلمةِ، بل أشدُّ من الكلمة. فكتابُ القرآنِ الكريمِ يشرحُ لنا بالكلامِ والأمثلةِ أسماءَ الله تعالى الحُسنى بكتابةٍ على ورق، أمَّا كتابُ الخلقِ المبين فهو يُكْمِلُ شرحَ الأسماءِ الحُسنى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، ليس عن طريق الكلام، بل عن طريق الفعل والمعاينة واللمسِ والإحساس والمشاهدة والحياة والواقع ... فهو عوالمٌ من إبداعه وإتقانِه وجمالِه تعالى، لا يَقرؤها إلَّا العالمُون ... وهؤلاءِ العالمُونَ هم الذين يُقدِرونَ اللهَ حقَّ قدرِه ... فلا يَسْتَخِفونَ بخلقهِ ولا يستهزؤونَ ... فخلقُ الله تباركَ وتعالى بسَمَاواتِه وأراضِيه وما عليهِما وما بينهُما كتابٌ مُبينٌ معروضٌ مفتوحٌ مُفعمٌ زاخرٌ بالحياةِ ناطقٌ نابضٌ ... أبطنَ مِلءَ ما أظهرَ ... وأظهرَ مِلءَ ما أبطنَ ... ذلكم هو كِتابُ الله ربِّ العالمينَ ... العزيزِ العليمِ ...
إنَّ كتابَ الخلقِ المبين كتابٌ عظيمٌ بديعٌ مُهِيبٌ غنيٌ كريمٌ زاخرٌ مُفعمٌ بالحياةِ، يحملُ صفاتَ خالقِه الكريم ... فمن كتابِه هذا نتعرفُ على أسمائه الحُسنى ... فنعرفُ صبرَهُ من عُمرِ هذا الكون العتيقِ المديدِ الذي يعودُ تاريخُ أصلِه إلى بلايين السنوات من التطور والتغيّرِ والبناءِ ... ونشاهدُ وحدانيتَه وتسبيحَ الخلق بحمده عندما نجدُ أنَّ كلَّ خلقٍ من خلقه يدور ويَسْبَحُ في فلكه حول مركزٍ واحد ... ونُدركُ كَرَمَه وغِناهُ من مُشاهدةِ ودراسةِ عشراتِ الملايينِ من أنواع الخلائقِ الحيَّةِ والميِّتةِ والفصائلِ من الحاضر ومن الدهور السحيقةِ البائدةِ التي عاشت وازدهرت بها الأرض ومن ثمّ ماتت وانقرضت، فاندثرت ... ونعلمُ شيئاً من سعةِ عِلمهِ بالتأملِ وبالبحثِ والاكتشافِ والتنقيبِ في ملكوته ...
ونشعرُ بمقدارِ رحمتهِ وحبِّه وحنانِه ورأفتهِ وَوِدِّهِ من منظرٍ الأمَّهات الوالهات تبكي وتشقى من فراق فلذات أكبادهن ... ونعلمُ قوَّتَه وجَبَروتَه وبطشَهُ من الزلازل والبراكين والانفجارات، ومن الحرارات والطاقاتِ الكامنات داخلَ الأرض والنجوم والشموسِ ... ونعلم عظمتَهُ وكُبْرَهُ من عظمةِ وكِبَرِ هذا الخلق المُهيبِ الرهيبِ وما يحويه من مجراتٍ وأجرام هائلةٍ لا يتخيلُ أبعادها عقلٌ ولا بال ...
ونرى جمالَه في بديع صنعه وتصويره للخلائِق من حولنا ... ونشعرُ بمغفرتِه وتوبتِه وعفوهِ وستره وبرِّهِ وحفظه، وسمعه وبصره وقدرتِه وتقديره ... ونتعلمُ بنوره وهداهُ من علمِه ورُشده وحكمتِه وخبرته وإحصاءِه وحسابِه وخلقِه ... ونحيا برزقِه وعطاءِه ورُبُوبيتِه وإلوهيته وعدلِه وملكِه وإبدائه وإنهائه وإحياءِه وإماتِته وإظهارِه وإبطانِه وتوقيته ورقابته ... وما إلى ذلك من أسمائه تعالى وصفاته التي نقرؤها من الكتاب المبين ...
في هذا الكتابِ المُبينِ كُلُّ ما دَبَّ على هذه الأرضِ وكُلُّ ما يراهُ ويستشعرُه الإنسانُ بحواسِّه ابتداءً من أصغرِ مُكوناتِ المادةِ وأقربِها إليه، وانتهاءً بأعظمِ الحشودِ المجريَّةِ وأبعدِها عنه ... من أبسطِ الكائناتِ الحيَّةِ الوحيدةِ الخليَّةِ، إلى الإنسانِ أكثرِها تعقيداً وتنظِيماً ... من أقدمِ المخلوقاتِ وأغْربِها من العصورِ السحيقةِ البائدةِ، إلى أحدثِها وحاضِرِها ... بمعنى آخر فإنَّ "الكتابَ المبينَ" هو خلقُ الله تبارك وتعالى الذي سَخَّرَهُ للإنسان ...
ولقد وردت كلمة "مبين" عدة مراتٍ في المصحف كصفةٍ للكتاب، ولكن نشيرُ هنا إلى أنَّ كلمة "مبين" إذا فُسِّرت حرفياً تعني ببساطةٍ أنَّ الشيءَ المُبينَ يكون واضحا جليا.
وكذلك عندما يُكَلِمُنا الله عزَّ وجلَّ عن "الكتاب المبين" فينبغي أنْ يكونَ هذا الكتابُ مُبيناً ومُشاهداً لنا نحن الناس إذ إنَّ الكلامَ لنا! فلو كان هذا الكتابُ موجوداً بعيداً عنا في السماء أو في عِلْمِ الغيب عنده فلماذا وصفه تعالى بـ "المبين" ولمْ يصفه بـ "المختفي" أو "الغيبي" مثلاً؟ بل ولِمَ يذكُرُه الله تعالى أصلاً إنْ كان بعيداً ولن نراه ولن يؤثر في أعمالنا بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ؟ فالله تعالى حكيمٌ ولا يخلو كلامُهُ من الحِكَمِ البليغة ...
كتابُ الخلقِ المُبين هذا هو خلقُه تبارك وتعالى المتميزُ بالبساطةِ والتناغم والجمالِ في الظاهِرِ وبالتعقيدِ والنظامِ المحكمِ في الباطِن. وذلك ظاهِرٌ في جميع مشاهدِ الخلقِ صَغُرَ أو كَبُر، قَرُبَ أو بَعُد، حياً كان أو ميِّتاً. فمن النظرة الأولى إلى أيِّ مشهدٍ فإنَّنا نرى البساطةَ والجمالَ دون سواهِما وكلما تعمقنا داخل هذا المشهدِ فإنَّنا نرى عوالمَ وطبقاتٍ من الإعجازِ والإبداعِ نُظِّمت بحيث يتصلُ صَغِيرُها بمثيلهِ بعلاقاتٍ مُحكمةٍ من جِهَةٍ وبِكبيرها من جِهَةٍ أخرى في علاقاتٍ لا يأتيها الخللُ ولا الضمور ولا الفُطورُ ...
فهي مشاهدٌ لا نهائيَّةٌ وكُلُّ مشهدٍ غنىٌ بإبداعاتٍ وإعجازاتٍ لا نهائيَّة ... إنَّه خلقٌ بسيطٌ مُعقدٌ مُتفاصلٌ مُتكاملٌ ... فيه خلقُ ذرةٍ أصعبُ من خلقِ كونٍ ... وخلقُ كونٍ أصعبُ من خلقِ ذرةٍ! فسُبحَانَ من أعجزَ فأبدعَ ... وأبدعَ فأعجزَ ... أكرمَ فأغنىَ ... وأغنىَ فأكرمَ ...
هذا الخلقُ الكونيُّ بسماواتِه وأراضِيه "كتابٌ" بمعنى الكلمةِ وذلك بالنصِّ القُرآنيِّ الحرفيِّ:
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ وَلا طَئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أمثالُكُم، مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىءٍ، ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ {الأنعام:38} ...
مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىءٍ ، أي :
مَّا فَرَّطْنَا فِى الخلق مِن شَىءٍ.
فليس المقصود بـ الكِتَبِ في الآيةِ أعلاهُ أنَّه كتابٌ في علمِ الله تبارك وتعالى فيه أخبارُ وإحْصاءُ كُلِّ شَيءٍ مخلُوقٍ ومُقدرٍ ... ما كان وما سيكون ... فاللهُ تعالى أعلمُ وأقْدَرُ وأحفظُ من أنْ يحتاجَ إلى كتابِ إحصاءٍ كي لا تضيعَ منه الأشياءُ، سبحانه وتعالى. بل إنَّ كلَّ الخلقِ هو بِحدِّ ذاتِهِ كتابٌ، وهذا الكتاب كامل لا تفريط فيه ولا نُقصان، وهو ما تنصُّ عليه الآيةُ الشريفةُ ذاتُها .... فيكونُ معنى الآيةِ: مَّا فَرَّطْنَا فِى الخَلقِ مِن شَىءٍ .... وهذا التأويلُ أقربُ إلى سياقِ الآيةِ والعقلِ. بل هو أقربُ إلى معنى العديدِ من الآيات القرآنيةِ ذاتها التي تنصُّ على أنَّ كلَّ ما في الخلق مُقدرٌ مَوزون لا إفراطَ فيه ولا تفريط. فعلى سبيل المثال ما جاء في سورة الحجر: وَالأرْضَ مَدَدْنها وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَسِى وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىءٍ مَّوْزُونٍ {19} وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَزقينَ {20} وَإِن مِّن شىءٍ إِلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} ...
فكلمةُ "كتاب" في عدةِ مواضعَ في المصحفِ الشريف هي خلقُ السموات والأرض على سبيل المجاز والاستعارة. ولقد استخدم القرآن الكريم المجاز والاستعارة كثيراً كما نستعملها نحن البشرَ ... فتأملْ في قولِ الشاعر:
هذِهِ الدُّنْيا كِتابٌ أنتَ فيهِ الفِكْرُ
وكذلك: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإيمن لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَبِ الله إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (الروم : 56) ... ونحن نعلمُ أننا لبثنا أي عِشنا حياتنا في "خلق الله" والآيةُ تعني بوضوحٍ أنَّ هذا الخلقَ هو كتابُ الله تعالى ...
فيكونُ المقصودُ بعبارةِ :
لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَبِ الله هو
لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى خَلْقِ الله ...
وكذلك: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ {هود: 6} ... فأين تعيشُ وتستقرُ الكائناتُ الحيةُ؟ أليس في الأرض! ومن أين تُرزق؟ أليس من هذه الأرض! إذن فالخلقُ كتابٌ مُبينٌ لنا بالعين.
فيكونُ المقصودُ بعبارةِ:
كُلٌّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ: هو
كُلٌّ فِى خَلْقٍ مُّبِينٍ ...
وكذلك: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِى كتبِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأرْضَ ... {التوبة: 36} ... ألا نرى اثني عَشَرَ قمراً في السماءِ في السنة الواحدة؟
فيكونُ المقصودُ بعبارةِ
فِى كِتَبِ الله هو
فِى خَلْقِ الله ...
وكذلك: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَدَيْنَا كتبٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ، وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {المؤمنون: 62} ... ومن سورة الجاثية: هَذَا كتبنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {الجاثية: 29}. فيعتقدُ الناسُ من الآيةِ أنَّ كتابَ أعمالٍ سيظهرُ لهم يوم القيامةِ فيه تفاصيلُ حياتِهم اليومية.
وفي الحقيقة فالكتابُ الناطقُ هذا ما هو إلا الأرضَ ومن عليها. ولأنَّ الإنسان من الخلق، بل هو على رأسه الهرمي، فيكون الإنسان بنفسه جزءٌ لا يتجزأ من كتاب الخلق ... فالإنسانُ كتابٌ! وهذا الإنسانُ – أي الكتاب – يشهدُ على نفسه يومَ القيامةِ وهذا قمةُ العدل وقمةُ الحقِّ. ونُطقُ الحقِ هو الإخبار والشهادة بما حدث على الأرض فعلياً من أفعال الناس خلال الحياة الدنيا، وكلُّ شيءٍ كبيرٍ أم صغيرٍ مسجلٌ موثقٌ في هذا الكتاب، أي في الخلق وفي الإنسان.
ومن الأمثلة على هذا ما يقوم به الناس من تسجيل صوتِ (أو صورة) المُتهم بشيءٍ أثناء قيامه بجريمته، ثم عرضُهُا عليه أثناء محاكمته كدليلٍ دامغ لا يقبل الشك على عمله.
فيكونُ المقصودُ بعبارةِ
كتبٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ هو
خَلْقٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ...
أمَّا كلمة { وَلَدَيْنَا كتبٌ } فلا تعني المكان بل تعني { بِمُلكِنا كتبٌ } ... وكلُ الكتابِ أي الخلقِ ملكٌ لله تعالى ...
ولقد جاء في القرآن أيضاً أنَّ جسدَ الإنسانِ – أي كتابه - ينطق يومَ القيامة بالحقَّ كما في سورة فصلت: حتى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأبصرهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الذى أَنطَقَ كُلَّ شىءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {21} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبصركُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ {فصلت: 22}
كما جاء في عدة آيات قرآنية أنَّ خلق السَّموتِ والأرضِ قام بالحق، فعلى سبيل المثال من الآية 73 من سورة الأنعام: وَهُوَ الذى خَلَقَ السَّموتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ، علمُ الْغَيْبِ وَالشهدة، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {الأنعام : 73} ...
وبالتالي فهو الكتاب - أي الخلق - الذي قام بالحق، وينطق بالحق ...
وكذلك: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَبٌ حَفِيظٌ {ق : 4} ... وهذا الخلقُ كتابٌ محفوظٌ بنواميسَ وقوانينَ وضعها العزيز القدير، كما هو معلومٌ للدارسين في العلوم الطبيعية من قوانين حِفْظِ المادة والطاقة، فكلُّ شيءٍ محفوظ.
أمَّا معنى "وَعِندَنَا" أي "بِمُلْكِنا" فبطبيعةِ الحالِ كلُّ الخلقِ مُلْكٌ لله إذ لا ينبغي فَهمُ "وَعِندَنَا" بمعنى الموقعِ المكانيِّ إذ ليس اللهُ عزّ وجلّ مُجسداً ليكون له موقعٌ محددٌ مُجَسدٌ، فكُلُّ شيءٍ إنما هو "عِندَه" أي "بمُلكِهِ" ...
وتأمل في قوله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ {الأنعام :59} ... أليستِ الورقةُ والحبَّةُ والرطبُ واليابسُ في الأرض التي نراها بأعيُننا، فهي مُبينة؟ ألا يتضحُ الآنَ من الآية إنَّ الكتابَ المبينَ ما هو إلا ما يبانُ لنا من الخلق؟
فكلُّ الخلق
في كِتَبٍ مُّبِينٍ ، أي
في خَلْقٍ مُّبِينٍ ...
وإنَّ أول ما أنزل من القرآن كان أمراً إلهياً بالقراءة، ليست قراءة الكتبِ الورقيةِ وحسب، بل قراءةَ الخلقِ مباشرةً ... قراءةَ الكتابِ المبينِ ... فتأمل في مطلع سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ ... خَلَقَ الْإنسَنَ مِنْ عَلَقٍ ... فالأمر هنا بقراءة الخلق، وهو كتاب مبين ...
ولو افترضنا جدلاً بوجودِ كتاب إحصاء عند الله تعالى فينبغي عليه ألا يغفَل عن ذِكْرِ أي شيء بمعنى الكلمة. فلو بحثنا مثلاً عن الورقةِ التي جاءَ ذِكرُ سقوطِها في الكتاب، فينبغي أن يُذكَرَ تفاصيل لونها، شكلها، وزنها، حجمها، سرعتها، طريقة مسارها أثناء السقوط، سرعةُ الرياح واتجاهها في ذلك المكان آنذاك، فضلاً عن التفاصيلِ الدقيقةِ مثل لماذا ومتى سقطت وما مكوناتها من الخلايا الحية والميتة وكيف تغذت كل خلية منها، وما الحشراتُ والآفاتُ التي عاشت عليها، وما العناصرُ والمركبات العضوية والكيميائية فيها، بل وما هو تاريخ وأصل الورقة وخلاياها والعناصر والمركبات الكيميائية منذ خلق السموات والأرض إلى حين سقوطها، وما إلى ذلك من تفاصيل يتوجبُ على كتاب الإحصاء أن يفصلها. في الحقيقةِ تفاصيل الورقةِ لا تتسع مجلدات الدنيا لذكرها، وفي الحقيقةِ لا يُمكنُ تخيل هذا الكتاب إلا أن يكون كتاباً ناطقاً شاملاً هو بذاته الورقة الساقطة تحكي كلّ شيء بنفسها!
فعبارة "كتاب" لا ينبغي حصرها على معنى أحرفٍ وكلماتٍ تكتب على ورق أو لوحٍ فهذا تعريفٌ بدائيٌ للغاية. فنحن نعلم الآن أنَّه يمكن وضع الكتاب على جهاز حاسوب أو شريط مُمَغنط أو شريط كاسيت أو ما إلى ذلك من وسائل. فلماذا لا يكون الكتابُ المقصود في الآيات شريط فيدو مثلاً بل ولماذا لا يكون أكثر دقةً فيكونُ ثلاثيَّ الأبعاد حياً زاخراً تتفاعل مكوناته مع بعضها البعض؟
فمن الدارج عند الناس إنَّ صورة واحدة خيرٌ من ألف كلمة. فلو كتبت لك في ورقة: طيرٌ على الغصن، فستتخيلُ طيراً وغصناً من عندك ولكن لو أعطيتك صورةَ طير على غصن، فستعلم مباشرة وبالتحديد جميع مواصفات الطير والغصن. فالصورةُ أيضاً كتاب تقرؤه بعينك ولكنها تعطيك معلومات لا تقارن في كميتها ونوعيتها بتلك التي تعطيك الكتابة الخطية على الورقة. أمَّا لو وضعتك في منظرٍ طبيعي حقيقي ثلاثيَّ الأبعاد فيه طيرٌ على الغصن، فلا بد وأنَّك ستعلم الكثير مما يتجاوز القراءة. إذ ستبصرُ بعينك المشهد مجسماً بما في ذلك المحيط البيئي كاملاً، وستستعملُ جميعَ حواسكَ الأخرى مثل الشمِّ والحسِّ بالحرارةِ والبرودةِ والطقس لتدرك الواقعَ تماماً، وبأدقِ تفاصيله.
وقد يرد البعض على قولي هذا بآيات قرآنية يُفهم من الوهلة الأولى منها أنَّ الأقدار الإلهية تكتبُ كتابةً في كتاب عند الله جلّ جلاله مثل الآية {21} من سورة المجادلة: كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرسلى إِنَّ اللهَ قَوِى عَزِيزٌ {21} ... فيعتقدون بكتاب أو لوح ما كُتبَ فيه هذا القدر ولا يفهمون من الآيةِ أنَّ الكتابة هنا بمعنى "الأمر" بمعنى: أمر الله لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرسلى ...
ولن نضطرَ للذهاب بعيداً لإثبات ما نقول به من أنَّ الكتاب المقصود ليس المفهوم الحرفي للكلمة، ففي الآية التالية مباشرة، أي الآية {22} نجدُ العبارةَ: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإيمنَ ...} فمن يفهمُ منها وجودَ "كتب" داخل قلبه يكتبُ فيه أنَّه مؤمن؟ فالمعنى هو {أُوْلَئِكَ جَعَلَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإيمن}!
وكذلك لا يفهمُ من قوله تعالى: يأيُّها الَّذِينَ ءامنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ... {البقرة: 183} أنَّ الكتاب المقصودَ هو كتابةٌ على جسدِ الإنسان أو على لوحٍ ما، لأنّ كُتِبَ هنا بمعنى فُرِضَ ...
ومن هذا المنظور الشامل للكتاب يمكن فهم جميع الآيات الأخرى التي قد يُفهم منها وجود كتاب أقدار عند الله سبحانه وتعالى ...
يتبع ....
الموضوع الأصلي: ما المقصود بعبارة "الكتاب المبين" في بعض الآيات القرآنية الكريمة؟؟؟ || الكاتب: د نبيل أكبر