اليهود وموقفهم من الإسلام
اليهود وموقفهم من الإسلام
فى حساب التاريخ أن المواجهة الأولى التى كانت بين الإسلام والوثنية فى مكة ، تختلف تماما ً عما يواجهه فى المدينة من معركة مُعَقدة بينه وبين أعدائه فى ميدان ذى جبهات ثلاث ، يلقى فيه حشود قريش فى صدام مُسلح ، وعصابات يهود فى أوكارهم الخطرة ، وجيوب المنافقين الذين حالفوا الشيطان ... وتتداخل الجبهات الثلاث ، زمانا ًومكانا ً، فيزداد الموقف تعقيدا وصعوبة وحرجا ً، من حيث لايستطيع المؤمنون أن يتفرغوا للجهاد فى إحدى الجبهات . ثم ينتقلوا إلى غيرها ، فيكون الأمرعليهم أخف عبئا ًوأيسر مشقة . ويمكن القول مع ذلك ، أن الجبهة اليهودية بدأت تشحذ أسلحتها المسمومة لحرب الإسلام من أول يوم الهجرة . بينما تأخر الصدام المُسَلح مع الوثنية القرشية ، ريثما يتحدد مجال الصدام ما بين مكة والمدينة ، ويتم التأهب له والإحتشاد ، فلم يبدأ إلا فى السنة الثانية للهجرة . وكذلك تأخر ظهورالجيوب الخطرة للمنافقين ، ريثما سرى فيها سم الشيطان بطيئا ًخفيا ً لم يكد يُلحظ إلا بعد أن ضرى وإستشرى ، يُهدد الوجود الإسلامى فى أحرج المواقف ، ذلك كله مما يدخل فى حساب التاريخ ، وحين بدأ ظاهر الأمر أن مكة وحدها هى مركز الخطر على الإسلام ، وأن له من يثرب مأمنا من كل خطر . فلنمض مع الأحداث إلى حيث نرقب منطق الحرب فى الجبهة اليهودية التى لم تطق صبرا ُعلى الإسلام منذتحول إلى دار الهجرة ، بل أخذت زمام المبادرة إلى الكيد له ، من اليوم الأول . لم يكد قد مضى على المُصْطفى يوما وبعض يوم ، حين إنكمش يهود فى دورهم ومجامعهم يرصدون الحدث الخطير ، ويحسبون ألف حساب لما وراءه من تهديد لوجودهم المُغتصب هناك . وفى بيت زعيم يهود "حيى بن أخطب "كانت العصابة به فى شغل شاغل بهذا المهاجر الذى إحتشد عرب يثرب لإستقباله . وبدا لإبن أخطب أن يتسلل هو وأخوه" أبو ياسر" فى ظلمة الفجر ، ليتحققا من شخصية النبى العربى ويستوثقا من أمره ، فى ضوء ما أعطى كتابهم الدينى ملامح النبوة ، وبعد أن إستوثقا أنه النبى .. سأل أبو ياسرأخطب فقال : أهوهو؟ قال: إنه هو
سأله أبو ياسر: أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم ، سأله أبو ياسر: فما فى نفسك منه ؟ فرد قائلا ُ: عداوته ما بقيت . ومن ذلك اليوم الأول للهجرة ، بدأ أعداء البشر يُشحذون أسلحتهم المسمومة ، ليحاربوا الإسلام فى جبهة ماكرة، أخطر وأضرى من الجبهة المكشوفة مع المشركين من قريش . كان هم يهود ، أن يُوا دعهم الإسلام ريثما يفيقون من صدمة الهجرة ويتدبرون وسيلة الخلاص من هذا الدين الذى لايمكن أن يُسالموه ، وفى خبث ، تقدموا يرحبون بالنبى المهاجر ويسألونه الموادعة والأمان وعليهم أن يكونوا مع أهل المدينة ضد أى عدوان عليها من وثنيى مكة .وأعطاهم صلوات الله عليه عهده بالمُوادعة على أموالهم وأنفسهم وحرية عقيدتهم ، فى وثيقة تاريخية شاهدة عل استجابته لِما طلب يهود من موادعة وأمان وحلف وجوار ، وعل إحترام حريتهم فى العقيدة ، وتأمينهم على دورهم وأموالهم ، إلا أن يأثموا أو يخونوا العهد ويُظاهروا على المسلمين أعداءهم من قريش . لم يكد يهود يطمئنون إلى موادعة نبى الإسلام إياهم ، حتة عادوا إلى أوكارهم يدبرون لحرب الإسلام فى معركة غير مكشوفة ، يتقون بها المواجهة السافرة والصدام المُعلن . وكان أقصى ما أقض مضاجعهم أن الإسلام أطفأ نار العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج ..فهل يُمكن إيقاظ الفتنة بينهما لابأس من المحاولة ، على أن تبدو كحادثا ًفرديا عارضا ًلايُحَمِّل يهود إثمه . وخططوا وأحسنواالتخطيط وأثارواالفتنة بين الأوس والخزرج وتأهبوا للقتال .. وتواعدوا على أن يلتقوا فى يومهم ذاك بموضع"الحرة" واندفعوا يتداعون إلى الحرب وهم يتصايجون : السلاح ، السلاح . ووجمت دار الهجرة وهى تسمع صيحة الحرب ، وجاء المُصْطفى فى جمع من أصحابه ، فأدرك القوم فى "الحرة"وقد هموا بقتال ، فقال عليه الصلاة والسلام : يامعشر المسلمين ، الله الله !أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف بين قلوبكم " ونفذ صوت الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مسامعهم وضمائرهم ، وعرفوا أنها مكيدة عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ُوبطل سم الفتنة وجاب كيد يهود، وفى أوكار اليهود الناشبة ، تمت تعبئة الأحبار ليكيدو للإسلام كيدا ُ، دون أن يُواجهوه بحرب معلنة . يتظاهر نفر منهم بالإسلام ثم يندسون بين الصحابة فى صميم المجتمع الإسلامى بالمدينة ، ليبذروا بُذور الشر التى يُؤتى شرها الخبيث على المدى الطويل ، واثقين من فعاليته وإن يكن بطئ الأثر . وآخرون منهم يتصدون لمجادلة المُصْطفى ، إلتماسا ً للعلم واليقين فى الظاهر ، وقصدا ًإلى إحراجه صلى الله عليه وسلم وإعناته . وعندما إستجاب الله سبحانه وتعالى لرسوله ، فولاه القبلة التى يرضاها وصلى المصطفى بالصحابة فى دار الهجرة،مُسْتقبلين المسجد الحرام بمكة : " قد نرى تقلب وجهك فى السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " ولم يمض هذا التحول الهام دون جدل من يهود . ذهب نفر من أحبارهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويسألونه : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التى كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ إرجع إلى قبلتك التى كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وتلا المصطفى من وحى ربه " سيقول السُّفهاء من الناس ما ولاَّهم عن قبلتهم التى كانوا عليها ، قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مُسْتقيم ". وانصرف يهود بغيظهم لم ينالوا شيئا ًبحيلتهم الماكرة وجدلهم الخبيث , وتنامى الخطر الأكبر فى الجبهة الخبيثة لأعداء البشرومن شرب من سمهم من المنافقين فى المدينة ، ثم تمادى بها الشرفسعت لقريش تؤلب الأحزاب فيها وتستنفرها لقتال المسلمين بالمدينة ، على وعد بالنصرة من يهود الذين وادعهم المصطفى وأمنهم على دينهم وأموالهم وكانت موقعة بدر ، هى التى كشفت المستور من غدرهم بعهدهم للمصطفى وفيه النص الصريح :- وإن لليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب " . إنه الغدر فجيش قريش لم يخرج من مكة إلا ليدهم يثرب والغدر من طبيعة يهود ، وهو توقع محسوب . وأملى لهم المصطفى، واكتفى صلى الله علبه وسلم بأن جمع يهودالمدينة بسوق بنى قينقاع ، وحذرهم من الله مثل نزل بقريش من النقمة وحين يقتصر الأمر على الإنذارفإن يهود يتطاولون وتجترئ ، ما بقيت السيوف فى أغمادها . وغدا بنوقينقاع إلى سوقهم بالمدينة يأكلون المال ، ويكيدون للإسلام لا يبالون نذيرا ًمن الله ورسوله ، وبدا لنفر منهم أن يعرضوا لإحدى المسلمات يريدونها على أمر تكرهه ، ثم احتالوا حتى كشفوا ثوبها فى السوق عن عورتها ، فصاحت تستصرخ العرب ، ووقع الشر بين من فى السوق من المسلمين وبين بنو قينقاع .
وأقبل المصطفى فى جمع من الأنصار وحاصروا اليهود خمس عشرة ليلة حتى إستسلموا ونزلوا على حكمه ، وعندئذ تقدم المنافق عبد الله إبن أبى سلول فقال للمصطفى على ملأ من الناس : - يامحمد ، أحسن إلى موالى َّ .وأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ولكن المنافق مضى فى لجاجة ، مصرًّا على إستنقاذهم . قال عليه الصلاة والسلام : " هم لك " واكتفى بأن جردهم من سلاحهم ، وأمهلهم ثلاثة أيام يجلون بعدها عن المدينة، فخرجوا أذلة مقهورين إلى وادى القرى ، حيث نزلوا على عصانتهم هناك . وتطهرت دار الهجرة بجلاء بنى قينقاع عنها بعد " يوم بدر " فى السنة الثالثة للهجرة . تعلق أمل يهود أن تثأر قريش لقتلاها فى بدر فما كانت لتسكت عليه كما سكت عليه على إجلاء بنى قينقاع . وبعد عام واحد ، فى شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، كانت موقعة أحد ونقدت يهود ميثاقها مع الرسول هذه المرة أيضا ً- فلم تكن على النصر ضد من حارب أهل هذه الوثيقة ". وبنو النضير ، كانو فى منطقة المدينة ، وقد لبثوا فى أوكارهم يرقبون سيرالمعركة فى أحد ، وطاب لهم ما لقى المسلمين من عدوهم وتأهبوا ليرجفوا لقالتهم الخبيثة : إنهزم محمد وأصحابه ، ويقول أنه نبى مرسل ؟ لوكان نبيا ماانتصر عليه الوثنيون ! ثم هموا باغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام ولكن الله عز وجل نجاه منها . ولم تزده فعلتهم علما بغدرهم ، لكنها زادته تصميما على حسم شرهم وعاد إليهم صلوات الله عليه فحاصرهم ست ليال من شهرربيع الأول ، من السنة الرابعة للهجرة . واستسلموا بغير قتال ، لحكم الرسول عليهم بالجلاء . وتضرعوا إليه أن يدعهم يذهبون بما حملت الإبل فسمح لهم بها الرسول المنتصر. ومضوا بالنساء والأولاد وما حملت الإبل من مال ومتاع إلى عشيرتهم فى خيبر ، ولم يكن دورها قدحان بعد . فكأنما كانو فى خروج الجلاء فى ضغطة الحشر .ولاحت الفرصة ليهود بنى قريظة : بعثت وفدا ً من أحبارها إلى مكة ، يردعلى المرتابين إيمانهم بآلهتهم، ويغرى الوثنية العربية بحرب دين التوحيد .ثم تسللوا عائدين إلى أوكارهم فى شمال الحجاز ومن ورائهم جيش المشركين : قريش والأحزاب من غطفان : بنى فزارة ، وبنى مرة ، وبنى أشجع بن ريث . لكن مثل هذا الطواطؤ لم يكن بحيث يخفى أمره .فقد علم المصطفى بمسعى يهود وما بينت من غدر ، فانتظر عليه الصلاة والسلام حتى فرغ من الأحزاب يوم الخندق . ورجع بجنده إلى المدينة فى ساعة الظهيرة فما كادوا ينفضون عن ثيابهم غبار المعركة الظافرة حتى سمعوا دعاء المصطفى يعلو به صوت مؤذن المسجد النبوى : " أيها الناس من كان سامعا مُطيعا فلا يُصلين العصر إلا فى بنى قريظه "وتدفقت جموع المؤمنين إلى موعد رسول الله : صلاة العصر فى بنى قريظة وصلوها هناك ، وقد لاذ الجبناء بحصونهم التى ظنوا أنها مانعتهم من الله .. وامتد الحصار خمسا وعشرين ليلة ، ثم أخرجهم الرعب منها مستسلمين لحكم النبى ولكنه ترك الحكم لسعد بن معاذ نقيب الأوس وقال رضى الله عنه " آن لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم " ونطق بحكمه " أن يُقتل الرجال وتسبى الزراى وتقسم الأموال ونفذ حكم الإعدام فى رجال بنو قريظة ..وبعدها فى مستهل السنة السابعة ، وكانت مسيرة المصطفى إلى يهود خيبر الذين سارعوا إلى حصونهم يحتمون بها ، فتساقطت حصنا بعد حصن مما اضطرهم أن يبعثوا وافدهم إلى نبى الإسلام يسألونه أن يحقن دماءهم ويكتفى منهم بالجلاء وتركهم صلى الله عليه وسلم يجلون عن خيبرهائمين على وجوههم فى الفلاة وبعد سقوط خيبر إنتهت قصة الإستعمار اليهودى لشمال الحجاز ،لم يبق من عصابتهم سوى فلول مبعثرة فى فدك ووادى القرى وتيماء ؛ حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الجطاب هو الذى طهرجزيرة العرب من بقاياهم ، وعاد اليهودى التائه إلى ضلاله القديم ، يضرب فى التيه من بادية الشام ، تلفظه الأرض حيث أقام وتطارده اللعنة أينما حط أو