لماذا تستجاب الدعوة عند المطر ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
التناظرُ بين "الماء" في عالم الشهدة المادي ... و"الهُدى والروح " في عالم الغيب الروحاني
ثبُتَ لدينا في مقال سابق، أنَّ للكثيرِ من المفردات في "عالَم الشهادة" المادي المنظور ما يقابلها في "عالَم الغيب" الروحاني، وسنبين تاليا أن "الماء" من عالَمِ الشهادة المادي يقابله "الهدى والروح" من العالَم الغيبي الروحاني.
فكما الماءُ يُحْيي الأرضَالميتةَ بعد مَوتِها، فهُدى الله يُحْيي النفوسَ بعد موتِها ... فلا حَياةَ للكائناتِ الحيَّة بلا ماء، ولا حياة للنفوس بغير هُدىً من الله تعالى ...
وكما تهتزُ الأرضُ الميتةُ وتَرْبُتُ بعد نزول الأمطارِ، فالأنفسُ الميتةَ الضالَّة تهتزُ وتخشعُ عند نزولِ الهُدى إلى القلوبِ.
وكما أنَّ قُشورَ البذورِ الجافةِ الميتةِ بعد طول جَدبٍ تتشقَقُ وتنضرُ بحلولِ الماءِ من السماءِ، فجلودُ الضالين من الناسِ بعد طولِ هجرانٍ تقشعرُ وتنضرُ بحلولِ اللُطفِ والهُدى من السماءِ ...
وكما الماءُ يَتغَلغَلُ ويَسْري في كُلِّ مكان حَلَّ به، ويَفرُدُ نفسَهُ على كُلِّ سَطحٍ لامسهُ ... فهُدى الله يتغَلغلُ ويسري في كُلِّ مكانٍ حَلَّ به، ويغْشى بِعطفٍ كلَّ شيءٍ اقتربَ منه ...
وكما الماءُ يُنظفُ الأوساخَ والنجسَ وينعشُ الجسدَ المُتعبَ ... فهُدى الله وهُداهُ تُطهِرُ الروحَ الضالةَ من دَرَنِها وخَبَثِها وتُنعِشُها من كَبَدِها ...
وكما الماءُ لا يُوقِفُه شيءٌ، فهُدى اللهِ لا يُوقِفُه شيءٌ ...
وكما يَنزِلُ الماءُ من السماءِ بغزارةٍ وكرمٍ، فهُدى الله تبارك وتعالى ينزِلُ من السماءِ بغزارةٍ وكرم ...
لِذَا ففي الحديثِ النبويِّ الشريفِ أنَّ الدعاءَ مُستجابٌ عِند المَطر، فكما تهْطِلُ الأمْطارُ يهطلُ معها الهدى والاسْتِجابةُ منه تباركَ وتعالى ...
والدعاءُ مُستجابٌ عِند ميزابِ الكعبة المشرفة – الميزاب هو القناة التي تتجمع فيها مياه الأمطار على السطح لتنزل منها إلى الأرض - وكأنَّ المعنى أنَّه في الميزابِ ينزلُ الهُدى كما ينزلُ سيلُ المطر ...
فالحياة في العالم المادي المشهود هي الماء، فلا حياة للمخلوقات بدون ماء. أمَّا في عالم الغيب الروحاني، فالحياة هي "الهُدى" أو "الرّوح"، فلا حياة للأنفس وللأمم الضالة بدون "هدى" أو "روح" منزل من السماء.
وكما ينزل تعالى الماء من السماء إلى الأرض لتحيا الكائنات الحية، فهو تعالى ينزل "الهُدى" أو "الروح" من السماء على الأنفس الضالة والأمم الغافلة لتصحوا وتبعث فيها الحياة من جديد.
فتأمل في مطلع سورة النحل:
أتَى أمْرُ الله فَلا تَستَعْجِلُوهُ، سُبْحَنَهُ وَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {1}
يُنَزِّلُالْمَلئِكَةَبِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـهَ إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ {النحل : 2}
أي نزلتِ الملائكةُ بأمرِ الله تعالى بِبعثِ الروحِ (الحياةِ) في الأممِ الميتة .....
والأمثلة على ارتباط ذكر إحياء الأرض الميتة مع ذكر إحياء الأنفس والأمم الضالة الميتة في المصحف أكثر من أن تحصى هنا ... وسنبينُ هذا الأمرَ فيما يلي ...
إنَّ إحياءَ الأرضِ الميتةِ بالماءِ المنزلِ من السماءِ هو بمعنى إحياء الأنفسِ الميتةِ الضالةِ بالهُدى المنزل بالوحيِّ من أمر الله تعالى. فتأمل على سبيل المثال هدى الناس في الآية 64 من سورة النحل والذي تبعه مباشرة ذكرُ إحياءِ الأرض الميتة في الآية 65:
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتبَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذى اخْتَلَفُواْ فِيهِ
وَهُدى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {64}
وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65}
وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعم لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ
مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّرِبِينَ {66}
فلماذا قال تعالى عن آية المطر: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ؟ فالمطرُ يُشاهدُ ويُحسُّ أكثر مما يسمعُ؟ الجوابُ إنَّ الآيتين 64 و 65 تتحدثان عن الشيء نفسه وهو إخراج الحياة من الممات. فالآية 64 تتحدث عن حياة الأمم بالكتاب المنزل من السماء بعد الضلال، والآية 65 تتحدث عن إخراج الحياة من الأرض بعد الجفاف.
ولهذا السبب فقد قال تعالى: إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ... أي يسمعون الذكر والهُدى المنزل من السماء.
لاحظ كذلك أنَّ الآية 66 تتحدث عن نفس الشيء، أي عن بعث الحياة من الموت وإخراج الشيء من ضدِّه، إذ إنَّ إخراجَ اللبن الأبيض السائغ اللذيذ من بطون الأنعام من بين فرث ودم هو إخراجٌ للشيء من ضدِّه كإخراج الحياة من الموت.
وتأمل أيضاً قوله تعالى من سورة يونس:
إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنْزَلنَهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَمُ
حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَدِرُونَ عَلَيْهَا
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنها حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ،
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {يونس: 24}
فعندما ينزلُ الماء من السماء تدُّبُّ الحياةُ في البذور الميتة وتصحوا فتُنبتُ الأرضُ الميتة ألواناً وأشكالا من الحياة. وعندها يظن الإنسان أنَّ هذا بمجهوده هو فينسى ويستكبر. فكما أنَّ الماء يُحيي الأرض الميتة، فإنَّ وَحيَّه وكلامَه وهداهُ تعالى يُحيي الأممَ الميتةَ.
فعند نزولِ الوحيِّ الإلهي إلى الأرض تحيا النفوس الميتة فتنْتظمُ الصفوفُ وتُوَحَدُ الأفكارُ وتُخترعُ العلومُ والمعارفُ ويحدثُ الرُقيُّ الماديُ والروحانيُ والإنسانيُّ كما حدث عند نزول القرآن الكريم. وبعد ذلك يعودُ الكفرُ والاستكبارُ من جديدٍ ويظنُ الإنسانُ من جديد أنَّ كلَّ هذا التقدم إنَّما كان بجهده هو ولم يكن بفضل النور الإلهي فيسودُ الظلمُ ويُطفأ النورُ وعندها يأتيهم العقابُ الإلهي من جديد ...
وهكذا تتكررُ السنَّةُ الإلهيةُ مع وحيِّ السماءِ في كل مرةٍ، كما هي حال حقول الأرض وأوديتها مع الماء المنزل من السماء ...
ثم بعد ذكر إحياء الأرض الميتة بالماء بالتفصيل في الآية 24، يأتي ذكر هدى الله تعالى مباشرة في الآية التالية لها أي في الآية 25 من سورة يونس:
وَاللهُ يدعوا إِلَى دَارِ السلم وَيهدى مَن يَشَاءُ إِلَى صرط مُّسْتَقِيمٍ {يونس:25}
فلاحظ الترادفَ في ذكر إحياء الأرض الميت في الآية 24 مع ذكر الهدى وإحياء الأمم الضآلة في الآية 25.
وتأمل أيضاً قوله تعالى من سورة البقرة في الآيات 21 إلى 23 :
يأيها النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21}
الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَشاً وَالسَّمَاء بِنَاء
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرت رِزْقاً لَّكُمْ
فَلا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {22}
وهذا إحياء الأرض الميتةِ بالماء المنزل من السماء في عالم المادة المشاهد ...
ثم في الآية التالية مباشرة يأتي ذكر نزول حياة الأنفس الميتة بالهدى المنزل من السماء:
وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأتوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ
وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صدقينَ { 23 }
وتأمل أيضاً قوله تعالى من آخر سورة السجدة:
أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا نَسُوقُ المَاءَ إلَى الأرْضِ الجُرُزِ
فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَمُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ،
أَفَلَا يُبْصِرُونَ{27}
وَيَقُولُونَ مَتى هَذَاالْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ {28}
فسُورةُ السجدةِ إنذارٌ من أوَّلِها وأمرٌ بالانتظارِ في آخرِها، وبين ذلك تتكلمُ عن الخلقِ والأمرِ والحسابِ بسياقٍ أزليٍّ كونيٍّ مهيب. لكنْ لماذا يتمُّ السؤالُ عن {هَذَاالْفَتْحُ} مع إلقاءِ الضوءِ على كلمةِ {الْفَتْحُ} بِتِكْرارِها مَرتين مع "ال" التعريف، مع العلم أنَّ الفتحَ هنا خارجٌ عن السياقِ العامِّ للسُورةِ فليس فيها أيُّ إشارةٍ إلى فتحٍ ما من أيِّ نوعٍ كان؟
ليس هذا وحسب، فاستخدامُ اسم الإشارة {هَذَا} يؤكدُ حصولَ الكلامِ قبل قليلٍ عن فتح ما. فهل جاءَ ذِكْرُ الفتح في السورة؟ وتحديداً قبل قليلٍمن الآية 28؟
الجوابُ نعم، فالفتحُ ذُكِرَ في الآية 27 ، ليس لفظاً ولكن بمعنى الهُدى. فإحياءُ الأرضِ الميتةِ (الجُرُزِ) بالماءِ المُنزلِ من السماءِ يعني إحياءَ الأنفسِ والأمم الميتةِ بالهُدى المنزلِ من السماءِ ...
فكما إنَّ الماءَ يُحْيي الأرضَ الجُرُزَ بعد مَوتِها، فإنَّ رَحْمةَ الله تُحْيي الأنفسَ الميتةَ وسُورَ القُرآن بعد موتِها في العقولِ والقلوبِ ... فلا حَياةَ بلا ماء، ولا هدىً ولا فتحاً بلا رَحْمةٍ من الله تبارك وتعالى ...
وتأمل قوله تعالى من سورة فصلت:
وَمِنْ ءَايَتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ،
إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (فصلت : 39)
فالذي أحياها لمحي موتى الأنفس والأمم الضالة ...
· وتأمل قولَه تعالى من سورة الفرقان:
وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الريح بُشْراً بَيْنَ يَدَى رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48)
لِنحى بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَماً وَأَنَاسِى كَثِيراً (49)
فهذا إحياء الأرض بالماء المنزل من السماءِ، ويلي الآية مباشرة إحياء الأمم الغافلة بالذكر المنزل من السماء:
وَلَقَدْ صَرَّفْنه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً
فَلا تُطِعِ الكفرين وَجهدهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان: 50- 52)