شرح حديث من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ،فهو في سبيل الله
عن أبي موسى رضي الله عنه قال { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل : يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قاتل [ ص: 702 ] لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله } .
الشــــرح
في الحديث دليل على وجوب الإخلاص في الجهاد وتصريح بأن القتال للشجاعة والحمية ، والرياء : خارج عن ذلك . فأما " الرياء " فهو ضد الإخلاص بذاته لاستحالة اجتماعهما أعني أن يكون القتال لأجل الله تعالى ، ويكون بعينه لأجل الناس ، وأما " القتال للشجاعة " فيحتمل وجوها :
أحدها : أن يكون التعليل داخلا في قصد المقاتل ، أي قاتل لأجل إظهار الشجاعة ، فيكون فيه حذف مضاف ، وهذا لا شك في منافاته للإخلاص .
وثانيها : أن يكون ذلك تعليلا لقتاله من غير دخول له في القصد بالقتال كما يقال : أعطى لكرمه ، ومنع لبخله ، وآذى لسوء خلقه وهذا بمجرده من حيث هو هو : لا يجوز أن يكون مرادا بالسؤال ، ولا الذم فإن الشجاع المجاهد في سبيل الله إنما فعل ما فعل لأنه شجاع ، غير أنه ليس يقصد به إظهار الشجاعة ، ولا دخل قصد إظهار الشجاعة في التعليل . وثالثها : أن يكون المراد بقولنا " قاتل للشجاعة " أنه يقاتل لكونه شجاعا فقط ، وهذا غير المعنى الذي قبله ; لأن الأحوال ثلاثة : حال يقصد بها إظهار الشجاعة ، وحال يقصد بها إعلاء كلمة الله تعالى ، وحال يقاتل فيها ; لأنه شجاع ، إلا أنه لم يقصد إعلاء كلمة الله تعالى ، ولا إظهار الشجاعة عنه ، وهذا يمكن فإن الشجاع الذي تدهمه الحرب ، وكانت طبيعته المسارعة إلى القتال : يبدأ بالقتال لطبيعته ، وقد لا يستحضر أحد الأمرين ، أعني أنه لغير الله تعالى ، أو لإعلاء كلمة الله تعالى ، ويوضح الفرق بينهما أيضا : أن المعنى الثاني لا ينافيه وجود قصد فإنه يقال : قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى ; لأنه شجاع ، وقاتل للرياء ; لأنه شجاع ، فإن الجبن مناف للقتال ، مع كل قصد يفرض .
وأما المعنى الثالث : فإنه ينافيه القصد ; لأنه أخذ فيه القتال للشجاعة بقيد التجرد عن غيرها ، ومفهوم الحديث : يقتضي أنه في سبيل الله تعالى إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وليس في سبيل الله إذا لم [ ص: 703 ] يقاتل لذلك . فعلى الوجه الأول : تكون فائدته بيان أن القتال لهذه الأغراض مانع ، وعلى الوجه الأخير : تكون فائدته : أن القتال لأجل إعلاء كلمة الله تعالى شرط ، وقد بينا الفرق بين المعنيين ، وقد ذكرنا أن مفهوم الحديث الاشتراط ، لكن إذا قلنا بذلك ، فلا ينبغي أن نضيق فيه ، بحيث تشترط مقارنته لساعة شروعه في القتال ، بل يكون الأمر أوسع من هذا . ويكتفى بالقصد العام لتوجهه إلى القتال ، وقصده بالخروج إليه لإعلاء كلمة الله تعالى ، ويشهد لهذا : الحديث الصحيح في أنه { يكتب للمجاهد استنان فرسه ، وشربها في النهر } من غير قصد لذلك ، لما كان القصد الأول إلى الجهاد واقعا لم يشترط أن يكون ذلك في الجزئيات ، ولا يبعد أن يكون بينهما فرق ، إلا أن الأقرب عندنا ما ذكرناه من أنه لا يشترط اقتران القصد بأول الفعل المخصوص ، بعد أن يكون القصد صحيحا في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى دفعا للحرج والمشقة ، فإن حالة الفزع حالة دهش .
وقد تأتي على غفلة فالتزام حضور الخواطر في ذلك الوقت حرج ومشقة . ثم إن الحديث يدل على أن المجاهد في سبيل الله : مؤمن ، قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، والمجاهد لطلب ثواب الله تعالى والنعيم المقيم : مجاهد في سبيل الله ويشهد له : فعل الصحابي - وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض } - فألقى الثمرات التي كن في يده ، وقاتل حتى قتل ، وظاهر هذا : أنه قاتل لثواب الجنة ، والشريعة كلها طافحة بأن الأعمال لأجل الجنة أعمال صحيحة ، غير معلولة ; لأن الله تعالى ذكر صفة الجنة ، وما أعد فيها للعاملين ترغيبا للناس في العمل ، ومحال أن يرغبهم للعمل للثواب ، ويكون ذلك معلولا مدخولا ، اللهم إلا أن يدعى أن غير هذا المقام أعلى منه ، فهذا قد يتسامح فيه ، وأما أن يكون علة في العمل فلا . فإذا ثبت هذا ، وأن المقاتل لثواب الله ، وللجنة : مقاتل في سبيل الله تعالى فالواجب أن يقال : أحد الأمرين إما أن يضاف إلى هذا المقصود - أعني القتال لإعلاء كلمة الله تعالى - ما هو مثله ، أو ما يلازمه ، كالقتال لثواب الله تعالى .
وإما [ ص: 704 ] أن يقال : إن المقصود بالكلام وسياقه بيان أن هذه المقاصد منافية للقتال في سبيل الله . فإن السؤال إنما وقع عن القتال لهذه المقاصد ، وطلب بيان أنها في سبيل الله أم لا ؟ فخرج الجواب عن قصد السؤال ، بعد بيان منافاة هذه المقاصد للجهاد في سبيل الله : هو بيان أن هذا القتال لإعلاء كلمة الله تعالى هو قتال في سبيل الله ، لا على أن " سبيل الله " للحصر ، وأن لا يكون غيره في سبيل الله مما لا ينافي الإخلاص ، كالقتال لطلب الثواب ، والله أعلم .
، وأما القتال حمية : فالحمية من فعل القلوب فلا يقتضي ذلك إلا أن يكون مقصود الفاعل : إما مطلقا ، وإما في مراد الحديث ودلالة السياق ، وحينئذ يكون قادحا في القتال في سبيل الله تعالى ، إما لانصرافه إلى هذا الفرض ، وخروجه عن القتال لإعلاء كلمة الله ، وإما لمشاركته المشاركة القادحة في الإخلاص ، ومعلوم أن المراد بالحمية : الحمية لغير دين الله وبهذا يظهر لك ضعف الظاهرية في مواضع كثيرة ، ويتبين أن الكلام يستدل على المراد منه بقرائنه وسياقه ودلالة الدليل الخارج على المراد منه ، وغير ذلك .
فإن قلت : فإذا حملت قوله " قاتل للشجاعة " أي لإظهار الشجاعة فما الفائدة بعد ذلك في قولهم " يقاتل رياء " ؟ قلت : يحتمل أن يراد بالرياء : إظهار قصده للرغبة في ثواب الله تعالى ، والمسارعة للقربات ، وبذل النفس في مرضاة الله تعالى . والمقاتل لإظهار الشجاعة : مقاتل لغرض دنيوي ، وهو تحصيل المحمدة ، والثناء من الناس عليه بالشجاعة ، والمقصدان مختلفان ، ألا ترى أن العرب في جاهليتها كانت تقاتل للحمية وإظهار الشجاعة ، ولم يكن لها قصد في المراءاة بإظهار الرغبة في ثواب الله تعالى والدار الآخرة ؟ فافترق القصدان ، وكذلك أيضا القتال للحمية مخالف للقتال شجاعة والقتال للرياء ; لأن الأول : يقاتل لطلب المحمدة بخلق الشجاعة وصفتها وأنها قائمة بالمقاتل وسجية له ، والقتال للحمية : قد لا يكون كذلك ، وقد يقاتل الجبان حمية لقومه ، أو لحريمه " مكره أخاك لا بطل " ، والله أعلم .
إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام
شرح حديث من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله