(عِزُّ المؤمن استغناؤه عن الناس)
هذا جزء من حديث سهل بن سعد رواه الطبراني في الأوسط كما في الترغيب للمنذري (918) ومجمع الزوايد للهيثمي (2-253)، والحديث وإن كان في سنده مقال إلا أن معناه صحيح، فالإنسان لا يزال عزيزاً محفوظ القدر والمكانة إذا كان في غنى عن الناس لا يحتاج إليهم، ومتى سأل الناس لنفسه وأكثر من مسألتهم وطلب إعانتهم، هان عليهم وقَلّ قدره عندهم، وشعر هو بجميل معروفهم عليه فكان أسيراً لهذا الإحسان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه هذه العِزة ففي صحيح مسلم (1043) في حديث المبايعة قال فيه: (ولا تسألوا الناس شيئا) قال راوي الحديث: (فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه)، فمن استطاع أن يقوم بأمره وحاجته بنفسه فليفعل وليستغن عن الناس وليستعفف عن ذلك، ومن أنزل حوائجه بالله وصبر وتعفف وبذل الأسباب أعانه الله ويسر أمره، كما في الحديث الصحيح
(ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله) أخرجه البخاري (1469) ومسلم (10053).
قال شيخ الإسلام في الفتاوى (1-39) والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له، كان أقرب إليه وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل:
احتج إلى من شئت تكن أسيره،
واستغن عمن شئت تكن نظيره،
وأحسن إلى من شئت تكن أميره،
فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه،
فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ليكون الدين كله لله ولا يُشرك به شيء،
ولهذا قال حاتم الأصم: لما سُئل فيم السلامة من الناس؟
قال: إن يكون شيئك إليهم مبذولا، وتكون من شيئهم آيسا، لكن إن كنت معوضاً لهم عن تلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر،
وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك، فالرب سبحانه: أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم، فإنهم لا يقدرون عليها. أهـ.
فالعاقل يُعَوّد نفسه على قضاء حوائجه بنفسه ولا يلجأ إلى أحد من الخلق إلا فيما دعت إليه الضرورة، لأن بعض الناس تعرض له الحاجة، فلا يطلبها بنفسه وقد يكون قادراً على الحصول عليها لكنه يبحث عن أحد من الناس ويبذل ماء وجهه في ذلك وهذا نقص في حقه، ومن وصايا الإمام أحمد: (استغن عن الناس فلم أر مثل الغنى عنهم).
واستغناء المؤمن عن الناس يختلف عن مساعدته لهم، فمساعدة المحتاج والشفاعة له والتعاون معه وتفريج كربه سواء طلب أو لم يطلب،
فهذا مما حث عليه الإسلام وجعله من التعاون والتراحم والتواصي بين المسلمين وهو من الإحسان والبذل الذي يثاب فاعله عليه وقد دلت عليه عموم النصوص الشرعية.
والله ولي التوفيق.